جدول المحتويات
تُصوّر الكثير من المصادر العربية أن هارون الرشيد عاش حياةً تعجُ باللهو والمجون، وتعتمد هذه المصادر على مزج التاريخ بالخيال لتنقل صورة كاريكاتيرية، بينما عاش الخليفة هارون الرشيد حياةً عكس ذلك، فقد كان منذ مولده في عام 149 من الهجرة معظّمًا لشعائر الله، ونشأ في كنف أبيه الخليفة المهدي، فتعلم، وتثقّف، وتدرّب على الفنون القتالية؛ فعُرف برجاحة عقله، وشجاعته، وجهاده في سبيل الله، وعندما تولّى الخلافة، اتسعت رقعة الدولة، وكثرت الفتوحات، لينتشر الإسلام، ويعمّ الأمن والسلام، وتنعم الرعية بالرخاء، حتى عُرف عصره بالعصر الذهبي للإسلام، وقد تُوفي الخليفة هارون الرشيد في عام 193 من الهجرة بمدينة طوس، والتي تُعرف حاليًا بمدينة مشهد في إيران.
يتحدث هذا المقال عن سيرة هارون الرشيد الكاملة، ويشمل:
- استعراض المعلومات حول هارون الرشيد من حيث اسمه الكامل، ومولده، وأبنائه، وإخوانه وأخواته، وزوجاته.
- بيان صفات هارون الرشيد، ولماذا سُمي بالرشيد.
- الحديث عن علم هارون الرشيد، وخلافته، وسياسته الداخلية والخارجية في إدارة شئون البلاد.
- توضيح العلاقة بين هارون الرشيد والبرامكة.
- ذكر أبرز أقوال هارون الرشيد.
- عرض قصة وفاة هارون الرشيد.
من هو هارون الرشيد ؟
هارون الرشيد هو أحد أشهر خلفاء الدولة العباسية، وهو أبو جعفر هارون بن محمد بن المهدي بن أبي جعفر المنصور، يرجع تاريخ ولادته إلى عام 149 هجريًا، وقد استلم الخلافة الإسلامية في ليلة توفي أخيه موسى الهادي وذلك في عام 170 هجريًا، فقد كان عمره حينها يناهز الثانية والعشرين، وقد امتاز الخليفة هارون الرشيد بشهرته الواسعة التي تجاوزت بلاد المشرق، ووصلت إلى الغرب؛ ولذلك حرص العديد من ملوك الدول الأوروبية في ذلك الوقت أن يتقربوا منه؛ وذلك لما عُرف به من براعة في علم السياسة، فقد استطاع أن يجمع بين حزم جده المنصور، مع المرونة والقدرة على انتقاء المقربين منه، وقد اشتهر بسخائه، واهتمامه الشديد بأمور الرعية، فضلًا عن ورعه وتقواه حيث قيل عنه أنه يُحج عامًا، ويغزو عامًا، وعندما كان الخليفة هارون الرشيد يخرج للحج، كان يصطحب معه مئةً من الفقهاء وذريتهم.
إسم هارون الرشيد الكامل
هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي، وكنيته أبو جعفر، وأم هي الخيزران بنت عطاء التي كانت جاريةً استُقدمت من بلاد اليمن، واشتراها الخليفة المهدي، واصطفاها لنفسه، ثم أعتقها، وتزوجها وأنجب منها أبو موسى محمد الهادي، وهارون الرشيد.
مولد هارون الرشيد
كان مولد هارون الرشيد عام 149 من الهجرة النبوية الشريفة، بما يوافق عام 766 ميلاديًا، وذلك في مدينة الري التي أصبحت إحدى أبرز أجزاء إقليم الجبال خلال الخلافة العباسية، وعند مولده كان أبوه المهدي واليًا على مدينة الري؛ لذلك كانت نشأة هارون الرشيد بين أبناء الأمراء والقادة، كما كان أخًا بالرضاعة الفضل وجعفر، وهما من أبناء يحيى البرمكي الذي تبوأ مكانة عالية في الدولة العباسية، وبعد مرور عامين فقط من ولادة هارون الرشيد، تُوفي الابن الأكبر للخليفة أبي جعفر المنصور؛ لتعود أسرة المهدي والد هارون الرشيد إلى بغداد؛ حيث تولّى المهدي وقتها ولاية العهد، وقد عاش هارون الرشيد منذ ولادته طفولةً ناعمة في رعاية من أبيه وجده، وعند وفاة جده أبي جعفر المنصور، أصبح والده الخليفة؛ ليجد الرشيد نفسه في ميادين الفروسية، والقتال؛ لدرجة أن محمد بن علي الخراساني يصفه بأنه أول خليفة يلعب بالصوالجة والكرة والشطرنج، وسرعان ما أتقن فنون القتال حتى أصبح قائدًا للجيش الذي يشتمل على كبار القادة والأمراء رغم أن عمره حينها لم يكن يتجاوز الخامسة عشر، وقد استطاع أن يدخل قلعة “سمالوا” الرومية فاتحًا؛ ليكافئه أبوه المهدي بتوليته إمارة أذربيجان وأرمينيا.
ابناء هارون الرشيد
كان لهارون الرشيد عشرة أبناء، واثنتا عشرة بنتًا، أما الأبناء فهم: محمد الأمين، وهو ابنه البكري من زوجته الأولى زبيدة، وعبد الله المأمون من جاريته الفارسية مراجل، والقاسم بن الرشيد من زوجته قصف، كما أنجب الرشيد أبو إسحاق محمد المعتصم بالله من زوجته التركية ماردة خاتون، كما كان له ابنان من زوجته أمة العزيز وهما: أحمد السبتي، وعلي، وأنجب أيضًا ابنًا يُسمى صالحًا من زوجته رثم، وقد كان له من أمهات أولاد أربع وهم: محمد أبو يعقوب، ومحمد أبو عيسى، ومحمد أبو العباس، ومحمد أبو علي.
أما بناته، فهن: سكينة وهي أخت القاسم، وأم حبيبة أخت المعتصم بالله، وأروى وأم الحسن وحمدونة، وفاطمة، كما أنجب من أمهات أولاد بعض البنات وهن: أم سلمة، وخديجة، وأم القاسم رملة، وأم علي، وأم الغالية، وريطة آخر بناته.
اخت هارون الرشيد
أخت هارون الرشيد هي علية بنت المهدي، وقد تزوجت من موسى بن عيسى العباسي، وعُرفت علية بمظهرها الجميل، وخلقها الرفيع، كما اتسمت بالفطنة، والعفاف، ونظرًا لكل هذه الصفات الجميلة، فقد كانت من أقرب الخلق إلى أخيها هارون الرشيد، أما الأخت الثانية لهارون الرشيد فهي العباسة بنت المهدي، وقد تزوجت من محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وعُرفت العباسة بجمالها الآسر، وقد حظيت بمنزلة عالية عند الخليفة هارون الرشيد أيضًا.
زوجة هارون الرشيد
تُعد زبيدة بنت جعفر أشهر زوجات هارون الرشيد، فقد كانت ابنة عمه، وعُرفت باسم ساقية حجاج الله، وهي السيدة الثانية في القصر، وذلك بعد أمه الخيزران، وقد تمتعت زبيدة بالعديد من الصفات الجميلة مثل رجاحة العقل، وشدة الورع فضلًا عن كرمها وقربها من الرعية حيث كانت تعطف على الفقراء وتحرص على مساعدتهم، كما بذلت في سبيل الله الغالي والنفيس، وليس أدل على ذلك من عين الماء التي تحمل اسمها؛ لسقاية الحجاج في مكة المكرمة، ويرجع تاريخ زواجها من الرشيد إلى عام 165 من الهجرة، وذلك في خلافة المهدي، وقد عُقد الزواج في بغداد، وأنجبت ابنها محمد الأمين؛ فأحبته حبًا جمًا، وحرصت على إعداده للخلافة بعد أبيه، ورغم تعدد زوجات هارون الرشيد؛ إلا أنه كان يعتبر زبيدة هي أهم زوجته، وقد تزوج أيضًا أمة العزيز، وأم محمد وهي ابنة عمه سليمان بن أبي جعفر، والجرشية التي ينتمي نسبها إلى الخليفة الراشد عثمان بن عفان، ويرجع السبب في تسميتها بالجرشية إلى مولدها بجرش اليمن، كما تزوج أيضًا من عزيزة ابنة خاله صالح، بخلاف الكثير من الجواري والحظايا مثل مراجل، وماردة.
صفات هارون الرشيد
تعددت صفات هارون الرشيد، فقد كان إمامًا يتسم بالعدل، والزهد، كما عرف بجهاده، وقد أكثر الكتاب والشعراء من وصف طيب أخلاق هارون الرشيد، ولعل أشهر هذه الصفات أنه كان يُعرف بكرمه وعطائه، فقد كان يتصدق من ماله في اليوم الواحد بأكثر من ألف درهم، كما كان حريصًا على العبادة، فقد كان يُصلي في اليوم مائة ركعة، وفي أسفاره للحج، كان يأخذ معه مائة من الفقهاء والعلماء، وإذا لم يستطع الحج، كان يتكفل بنفقة الحج وما يحتاجونه من كسوة، كما عُرف عن هارون الرشيد اتصافه بالحنان، والورع الشديد؛ فكثيرًا ما كانت تدمع عينه من خشية الله، كما أنه كان غيورًا على دين الله، ومحافظًا على حدوده.
اتصف هارون الرشيد أيضًا منذ صغره بالكثير من السمات القيادية، فقد كان يُعرف بقوة بنيته، وفطنته ودهائه، كما أنه كان واسع الثقافة والاطلاع؛ لذلك حرص والده المهدي على جعله وليًا للعهد بعد أخيه الهادي، وعمل أبوه على إعداده للخلافة على النحو الأمثل، فعندما كان عمره أربعة عشر عامًا، ولاه أبوه أمير الصائفة، واستطاع الرشيد أن يجتاز الحدود البيزنطية، ويفتح بعض الحصون، كما تولّى إمارة المغرب عام 164 هجريًا؛ ولكنه كان حريصًا على الإقامة في بغداد، فبعث إلى بلاد المغرب من ينوب عنه، وفي عام 165 هجريًا أصبح هارون الرشيد القائد للجيش الإسلامي؛ ليغزو الإمبراطورية البيزنطية، ويفتح أراضيها.
لماذا سمي هارون الرشيد بالرشيد ؟
سُمي هارون الرشيد بالرشيد لرشده واتخاذه القرار الصائب، كما كان يُعرف بالشجاعة، والبراعة في فنون القتال، وكان من أطلق عليه هذا الاسم هو أبوه الخليفة المهدي، فقد أراد أن يختبره، وأرسله قائدًا للجيش الإسلامي من أجل محاربة الروم؛ وعندما أظهر هارون في هذه الحرب حكمته وحنكته السياسية والحربية؛ أسماه أبوه بالرشيد.
علم هارون الرشيد
امتلك هارون الرشيد ثقافةً واسعة، كما كان من متذوقي الشعر، وأصحاب الأدب الرفيع في عصره، حيث قالوا عنه: فهم الرشيد فهم العلماء، فهو ليس أقل منهم درايةً بفنون الكلام والبلاغة والبيان، ولم يكن الرشيد مجرد مستمعًا فقط، بل كان ينقد الأشعار والشعراء، وعرف البلاغة بأنها التباعد عن الإطالة، والتقرب من المعنى المقصود، والدلالة بالقليل عن الكثير، وليس غريبًا عليه ذلك فقد تولّى تعليمه وتأديبه منذ مولده الكثير من علماء الأمة مثل عالم النحو الشهير علي بن حمزة الكوفي الذي يُعرف بالكسائي، وقد ظل الكسائي مرافقًا له طوال حياته، بل وكان المعلم لأبنائه أيضًا، كما تعلّم هارون الرشيد على يد المعلم المفضل الضبي الذي كتب “المفضليات”، وقد زخرت مجالس هارون الرشيد بالعلماء، والفقهاء، والشعراء، والأدباء، والموسيقيين، فضلًا عن أهل الطب.
مدحه الكثير من العلماء مثل الإمام الذهبي الذي قال عنه أنه كان محبًا ومُقدّرًا للعلماء، ومعظمًا لما حرم الله، كما كان أبغض شيءٍ إليه الجدال، وكثيرًا ما كان يبكي على حاله، وما يقترفه من ذنوب، خصوصًا إذا تصدّى للوعظ، وعاصر الرشيد في مجالسه الكثير من أدباء عصره مثل أبو العتاهية، وأبو سعيد الأصمعي، كما عاش في زمانه الإمام الشافعي، والإمام مالك بن أنس، بل والتقي به، وذلك عندما قصد الرشيد منزله عندما كان في المدينة المنورة، وحينها قرأ عليه الإمام مالك الموطأ، كما دعم هارون الرشيد الكثير من العلماء مثل جابر بن حيان، وقال عنه الفضيل بن عياض: “ما من نفس تموت أشد عليّ موتها من أمير المؤمنين هارون، فكم أود أن يزيده الله عمرًا على عمره”.
خلافة هارون الرشيد
بعدما تُوفّي الخليفة المهدي عام 169 هجريًا الموافق 785 ميلاديًا، أرسل هارون الرشيد إلى أخيه الهادي بطبرستان مراسم الخلافة وهي الخاتم، والقضيب، والبردة، كما أرسل إليه برقية تعزية في وفاة أبيهما، وبرقية تهنئة بالخلافة، وبذلك تولّى هارون الرشيد ولاية العهد، بمقتضى ما جاء في وصية الخليفة المهدي، ولكن الهادي كان يُفكر في أن يخلع الرشيد، وأن يُنصّب ابنه جعفر ولاية العهد بدلًا منه، وقد دخل الاثنان في منازعات وخلافات حادة، لم تنتهِ إلا بمرض الهادي مرضًا شديدًا؛ ليموت في عام 170 هجريًا، ليُبايع هارون الرشيد بالخلافة عن عمر اثنين وعشرين عامًا، وقد رُزق في ذلك اليوم بابنه محمد الأمين من زوجته زبيدة.
عندما تولّى هارون الرشيد الخلافة كانت الدولة العباسية مترامية الأطراف، حيث تمتد من أواسط قارة آسيا حتى المحيط الأطلنطي، وقد كان هذا الاتساع سببًا لظهور الكثير من الفتن؛ ولذلك توجب على الرشيد أن يقود الأمور بالحكمة البالغة، والحسم؛ ليفرض على سلطانه الأمن والأمان، وقد استطاع الرشيد أن يُحقّق ذلك رغم صعوبة الظروف في ذلك الحين من تعسّر الاتصال بجميع الإمارات ومتابعة أمورها.
تعهد الرشيد منذ توليه الخلافة أن يُشاور أمه الخيزران في جميع شئون الحكم، مع اتخاذ يحيى البرمكي وزيرًا له، مع بقاء سلطة الرشيد الفردية في إصدار الأوامر والقرارات، فبدأت الخلافة العباسية بعهده عصرًا زاهرًا؛ حيث تُعتبر خلافته واسطة العقد في تاريخ الدولة التي دام ملكها ما يزيد عن خمسة قرون، فقد اتسعت رقعة الدولة، وكثرة الفتوحات، كما شهدت جميع البلدان رخاءً غير مسبوق، وزادت العناية بالعلوم، وتسامت الآداب والفنون، فازدهرت الحضارة الإسلامية، وأبهر مجدها الناس من مشارق الأرض ومغاربها.
كثرت الإنجازات والأعمال في خلافة هارون الرشيد، ومن أبرز هذه الإنجازات:
- أصدر هارون الرشيد عندما تسلّم الخلافة أمرًا بالعفو الشامل على جميع الهاربين والمختبئين بحيث يكسبهم في صفه، ويستفيد بهم في عهده، واقتصر الاستثناء فقط على بعض الزنادقة الذين جاهروا بكفرهم وتعديهم على حرمات الله.
- اتخذ هارون الرشيد من الرقة عاصمةً رديفة للعاصمة الرئيسية بغداد.
- كثرت أموال الخراج في خلافته حتى وصل مقدارها إلى 400 مليون درهم؛ وذلك وفقًا لبعض تقديرات المؤرخين، وهذا المبلغ هو ذروة ما وصلت إليه الخزانة في تاريخ الخلافة الإسلامية كله، وكانت تلك الأموال تُجمع دون اعتداء أو تعدي، كما كانت تُنفق أيضًا فيما ينفع الرعية ويخدم مصلحة الأمة.
- نمت الدولة العباسية في عهده واتسع عمرانها؛ حيث شجّع هارون الرشيد رجال دولته على بناء الأحواض، وشق الطرق، وتشييد المساجد، والقصور، كما بلغ عدد السكان حوالي مليون نسمة.
- لعل من أبرز إنجازات هارون الرشيد إقامته لبيت الحكمة في بغداد، وهذا البيت هو مقر يشتمل على المؤلفات من جميع أنحاء العالم، ويحتوي هذا البيت أيضًا على الكثير من الأروقة والغرف، وقد خُصصت بعض الغرف للكتب، بينما خُصص البعض الآخر لإلقاء المحاضرات العلمية، وكانت هناك غرف خاصة بالمترجمين، والناسخين.
- ازدهرت في خلافة هارون الرشيد عملية الترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية، ولعل أبرز الكتب العلمية التي تُرجمت إلى العربية في عهده كتاب: “الأصول في الهندسة والعدد”؛ وهو كتاب يمثل نقلة في الحياة العلمية والهندسية في العالم العربي، حيث يُعد هذا الكتاب من أهم مؤلفات إقليدس.
- تطورت العديد من العلوم في خلافة هارون الرشيد مثل الفيزياء التقنية والفلكية، كما ظهرت بعض المخترعات الحديثة مثل الساعة المائة.
- اشتملت بغداد في خلافته على أول مصنع للورق، كما أصبحت السلع الورقية تُباع في أسواق مُخصصة للوراقين، وكان للورق البغدادي قيمة كبيرة في العالم أجمع.
- زاد معدل التبادل التجاري بين ولايات الدولة العباسية في خلافة الرشيد، كما حرص على تنظيم حراسة على الطرق التجارية التي تربط بين الأمصار، وبنى مدينة قريبة من الرقة تُعرف بمدينة الواقفة، وكانت هذه المدينة مقر الحكم في فصل الصيف.
- أقام هارون الرشيد أكبر المستشفيات في عصره، وكان هذا الصرح الطبي يُعرف بمستشفى الرشيد، واشتمل على نخبة من أمهر الأطباء، وعلى رأسهم جبريل بن بختيشوع، ويوحنا بن ماساويه.
سياسة هارون الرشيد
تُعتبر سياسة هارون الرشيد الجزء الأهم في سيرته، وتشتمل السياسة على الأوضاع الداخلية، والتي حرص الرشيد على أن يتعامل معها بدقة وحكمة؛ لكي يحافظ على بقاء حكمه مستقرًا، كما تتضمن السياسة الجانب الخارجي الذي يتعلق بالحروب والعلاقات مع الدول الأخرى، ومن أبرز ما شهدته ساسية هارون الرشيد ظهور بعض الحركات مثل حركة الخوارج؛ وهم طائفة قديمة يرجع تاريخ ظهورها إلى فترة القتال بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وقد عارضوا خلفاء بني أمية، ثم استمروا في معارضة خلفاء بني العباس، وزاد نشاط حركة الخوارج في عهد هارون الرشيد، لا سيما في منطقة شبه الجزيرة العربية، وقد كانوا بقيادة الوليد بن طريف الثعلبي، ولذلك سعى هارون الرشيد أن يتخلص من هذه الحركة بأسرع ما يمكن؛ لذلك أرسل جيشًا كبيرًا على رأسه مزيد بن زائدة الشيباني، وبالفعل استطاع أن ينتصر على الوليد قائد الخوارج، ويُخمد ثورته، وهكذا انتهت أزمة الخوارج في عهد هارون الرشيد.
الأزمة الثانية التي واجهت هارون الرشيد كانت تتمثل في علاقته بالعلويين، حيث حرص الرشيد على استمالتهم والتودد إليهم؛ لذلك رفق بهم، ووفّر لهم الأمان الذي فقدوه منذ عصر الدول الأمية، ولكن برغم كافة مساعي الرشيد؛ إلا أنهم لم يعدلوا على رأيهم بأنهم أحق بالخلافة من بين عباس، وأشعل العلويين ثورة كبيرة في الدولة العباسية؛ ولكنهم تعرضوا لهزيمة نكراء في عهد الخلافة الهادي وذلك خلال معركة فخ عام 785 ميلاديًا، ونجا من هذه المعركة اثنان هما إدريس بن عبد الله بن الحسن والذي استطاع أن يستقل بدولة في المغرب العربي تُعرف بدولة الأدارسة، بينما أقام يحيى دولة في بلاد الديلم في المشرق العربي، وأعلن خروجه عن الدولة العباسية، وعندها لم يجد هارون الرشيد أمامه حلًا سوى التصدي للعلويين، فقضى على الأخوين، واستطاع أن يتخلص منهما، وأخمد دولة يحيى العلوي في بلاد الديلم، ولكنه لم يستطيع أن يقضي على دولة الأدراسة.
من الأمور التي تُثبت مدى حنكة هارون الرشيد هي الطريقة التي تعامل بها مع الاضطرابات التي حدثت في شمال إفريقيا، وبلاد المشرق، أما عن شمال إفريقيا، فقد عيّن هرثمة بن أعين ليقضي على هذه الاضطرابات التي كان منشأها تمرد الخوارج وبعض قادة الجند والبرابرة، وبعد فترة من السيطرة على هذه الاضطرابات، تجددت الانتفاضات والتمردات مرة أخرى، وعندها لم يجد الرشيد حلًا سوى أن يُولّي إبراهيم بن الأغلب حكمًا لإفريقية، وبالفعل أثبتت الأيام صحة اختيار هارون الرشيد؛ حيث استطاع إبراهيم بن الأغلب أن يتغلب على كافة الصعوبات التي تعرقل حكمه، ولكنه استطاع أن يُقيم دولة خاصة به تُعرف بدولة الأغالبة، وقد استقلت هذه الدولة عن السلطة المركزية، واتخذت من القيروان عاصمةً لها، أما بالنسبة إلى الاضطرابات في بلاد المشرق، فقد كانت نتيجة لإساءة بعض الولاة التصرف؛ فكثرت الانتفاضات والتمردات الشعبية، مثل خروج رافع بن الليث بن سيار على السلطة المركزية، وذلك في سمرقند؛ ليتبعه بعض السكان في خراسان، حيث كانوا يكرهون العباسيين وإدارتهم للحكم، ولم تنتهي هذه الاضطرابات إلا بخروج الرشيد بنفسه إلى خراسان ليضع حدًا لهذه الفوضى، وقد أمر بعزل ولاة المنطقة الذين ثبت تسلطهم على الرعية وسرقتهم للأموال، كما فضّ هارون الرشيد النزاع الدائر بين القيسية واليمانية في بلاد الشام، ليحافظ على الاستقرار ويحمي البلاد من هجمات الروم.
مع اتساع رقعة الدولة العباسية، أصبح هارون الرشيد محطًا لأنظار العالم أجمع؛ لذلك من المهم الإشارة إلى سياسته الخارجية وعلاقاته مع الدول الأخرى:
بالنسبة إلى علاقة هارون الرشيد مع البيزنطيين، فقد حصّن حدود دولته، وقوّى الجيش، واستطاع أن يُجبر إمبراطورة البيزنطيين إيرين أن تقبل بالصلح وما يفرضه عليها من شروط، وبعد مدة قصيرة، خُلعت إيرين من العرش البيزنطي، وتولّى من بعدها نقفور، وقد كان كارهًا للعباسيين، وحريصًا على معاداة هارون الرشيد؛ فنقض العهود، ورفض الصلح، وطلب من هارون الرشيد أن يرد عليه ما دفعته دولته من أموال الزية، ولكن جاء رد الرشيد حاسمًا، حيث أسرع بمهاجمته العسكرية، وهزمه شر هزيمةً؛ ليعلن نقفور خضوعه، ويلتزم بأداء الجزية، ويمتنع عن ترميم ما هدمه المسلمون من حصون بيزنطية، وقد استمرت الهدنة ثلاثة أعوام، ولم يتهيأ للرشيد أن يواصل جهاده مع البيزنطيين، وذلك بسبب الفتن والثورات في بلاد خراسان التي اضطر إلى متابعتها بنفسه.
من أبرز جوانب السياسة الخارجية لهارون الرشيد علاقته مع الفرنجة، فقد أشارت العديد من المصادر اللاتينية بما كان يجمع هارون الرشيد بشارلمان من علاقة ودودة، حيث كانا يتبادلان الهدايا، فأرسل شارلمان الكثير من المنتجات الغالية مثل الأقمشة إلى هارون الرشيد، كما رد عليه الرشيد الهدايا مثل العطور والأقمشة أيضًا فضلًا عن إرسال ساعة مائية ولوحة شطرنج، ولكن هذه العلاقة لم تُسفر عن تحالف سياسي بين الدولتين، ولكن يُرجح أن تكون العلاقة كانت قائمة على التبادل التجاري بين الطرفين.
هارون الرشيد والبرامكة
ينتمي البرامكة في الأصل إلى رجل فارسي من المجوس يُسمى برمك، وكان لقب البرامكة من الألقاب التي تُطلق على سدنة معبد النوبهار في مدينة بلخ، وقد اشتهر من هذه الأسرة بعض الرجال في بداية عهد الدولة العباسية، مثل خالد بن برمك، لدرجة أن أبو العباس الشهير بالسفاح قد ولاه ديوان الخراج والجند، وبعدما صُرع أبي سلمة الخلال، تقلد منصب وزارة التنفيذ، كما كان أحد المستشارين في عهد الخليفة المنصور، وكان لخالد ولدًا يُسمى بيحيى، حيث ارتبط ذلك الابن بهارون الرشيد طوال حياته، فقد كان له دور هام في الحفاظ على منصبه كولي للعهد بعد أخيه الهادي، خصوصًا بعدما واجه الرشيد ضغوطات قوية من أخيه الذي كان يرغب في تنحيته من هذا المنصب الرفيع؛ ليمنحها لابنه؛ ومع تولّي الرشيد الخلافة بعد أخيه، حفظ هذا الفضل ليحيى البرمكي، فجعله وزيرًا له، وأتاح له الكتابة والإنابة عنه، وأعطاه الكثير من السلطات، فكان ليحيى البرمكي الدواوين كلها يتصرف فيها كيف شاء.
تمّكن يحيى البرمكي من خلال ابنيه الفضل وجعفر، وهما إخوة للرشيد في الرضاعة، أن يسيطروا على إدارة الدولة، ويشاركوا الرشيد في الحكم، حيث أحاطوا به من كل جانب، وأصبحوا يتحكمون به، فلم يكن في الدولة رجل بارز إلا من أتباع البرامكة؛ لذلك عندما أراد الرشيد أن يُزيحهم، كان من الصعب أن يعثر على رجال ليس له صلة بهم، ويُقول بعض المؤرخين أنه كان للبرامكة خطة خفية لإحياء الإرث الفارسي؛ لذلك كانوا سببًا في جعل ولاية العهد في ابنه المأمون لا الأمين، وذلك لأنه من أم فارسية، ولكن بعدما تبوأت أسرة البرامكة منزلة عالية في الدولة العباسية؛ كثرت الوشاية عليهم من العرب عند الخليفة هارون الرشيد، وأوقعوا بينهم، حيث اعتقد الرشيد أنهم كانوا على صلة بالعلويين، وقد كان الخلفاء العباسيون حساسين تمامًا في هذه النقطة، ويتخلصون من كل من يشكون في ولائه؛ لذلك قتل هارون الرشيد جعفر البرمكي عام 187 هجريًا، كما سجن أباه يحيى وأبناؤه، وصادر جميع ممتلكات أسرة البرامكة، وقد أوضحت الأخبار أن الرشيد ندم ندمًا شديدًا على تلك الواقعة وقال: “لعن الله من أغراني بالبرامكة، فوالله ما وجدت بعدهم لذةً ولا رجاء”، وانتهت هذه النكبة بانتصار الرشيد، وسيطرته على أمور الحكم، وقد تولّى الوزارة من بعدهم الفضل بن الربيع الذي كان حاجبه، وهو نصير الحزب العربي الذي كان مناهضًا لزيادة نفوذ البرامكة، ولم تُرفع المحنة عن أسرة البرامكة إلا مع وفاة الرشيد، وتولّي الأمين الخلافة، حيث قرر أن يعفو عنهم.
من أقوال هارون الرشيد
- “النفس تطمع والأسباب عاجزةٌ.. والنفس تهلك بين اليأس والطمعِ”.
- “الشرف يمنع صاحبه الدناءة”.
- “كل ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخلة البصرة”.
- نظر هارون الرشيد إلى الغمامة، وقال: “في أي مكان شئتِ أمطرى فسيحمل إليّ خراجك” كنايةً عن اتساع رقعة الدولة الإسلامية في عهده.
- كتب هارون الرشيد إلى نقفور إمبراطور الدول البيزنطية عندما امتنع عن دفع الجزية، وقال له: “من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم.. إن الجواب ما ترى، لا ما تسمع”.
- “من شاور كثُر صوابه”.
- “انقل المعركة إليهم، ولا تدعهم يحضرونها إليك”.
- “الملك عقيم، ولو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك”.
- “محمدُ لا تُبغض أخاك فإنه يعودُ عليك البغيُ إن كنت باغيا.. فلا تعجلا، فالدهر فيه كفايةٌ إذا مال بالأقوام لم يُبقِ باقيا”.
وفاة هارون الرشيد
قبل وفاة هارون الرشيد بأيام، رأى كفًا بها تربة حمراء في المنام، وسمع من يقول: إن هذه تربة أمير المؤمنين، وساءت من بعدها حالته الصحية، ومع ذلك خرج إلى خراسان؛ لوضع حدٍ للاضطرابات هناك، وعندما مرّ بطوس أثناء الطريق إلى خراسان، دعا أحد الخدم؛ ليحضر له من تربة الأرض التي نزل فيها، فأتاه الخدم بتربة حمراء في يده، فوجدها نفس اليد التي حملت التربة الحمراء في منامه، فأمرهم أن يحفروا له قبره، وأن يقرأوا القرآن الكريم كاملًا فيه، ثم حملوه إليه، فلما رآه قال: “إلى مثل هذا تصير يا ابن آدم” وفاضت عيناه بالدمع، وما لبث أن توفى بعد ثلاث ليال؛ ليدفن هناك في الثالث من جمادى الآخرة عام 193 من الهجرة، الموافق 24 من مارس/آذار عام 809 ميلاديًا، وقد تولّى الخلافة من بعده ابنه الأمين؛ ليكون سادس خلفاء الدولة العباسية.
