جدول المحتويات
خلق الله الخلق أجمعين، وفطر كل واحدٍ منهم على فطرة العبودية والانقياد له سبحانه وتعالى، حتى يعبدوه، ويسبحوه، ويذكروه جل جلاله، فلا ينبغي لأحدٍ الخروج عن هذه الفطرة، وإلا فتوعَّده الله بالعذاب المُهين، وأما الذي صبروا، وبقوا على هذه الفطرة، فإن لهم الجزاء الجزيل منه سبحانه وتعالى، ولذلك جعل الله تعالى للإنس والجنِّ حرية الاختيار، فمن شاء بقي على إيمانه، ومن شاء زال عن السراط المستقيم، وكلٌّ سيُسأل عما يفعل، وقد جعل الله لنفسه أسماءٌ وصفاتٌ أثبتها لنفسه في القرآن الكريم، أو على لسان نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، حتى نعرفه بها، ونسبحه ونعبده بها.
المعاني الواردة لاسم الله الجبار
تعددت أقوال العلماء في معنى اسم الله الجبار، وكلهم -تقريباُ- متفقون على كل هذه المعاني، حثت إن (الجبار) وردة مرةً واحدة في القرآن بهذا المعنى الاصطلاحي الذي يدل على الله سبحانه وتعالى، وهذه المرًّة الوحيدة كانت في سورة الشرح، إذ يقول الله جلَّ جلاله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، ولذلك سنسرد بعض هذه الأقوال لهؤلاء العلماء الأجلاء في معنى اسم الله الجبار:
- قال الطبريُّ: الجبار هو الذي يُصلح أمور خَلقه، فيُصَرِّفها في ما فيه مصلحتهم.
- قال الخطابي: الجبار هو الذي جبر الخَلْق على ما أراد من أوامره، ونواهيه.
- يُقال أن الجبار: هو الذي جبر حاجات ومفاقر كلِّ خَلْقه وكفاهم أسباب الرزق والمعاش.
- يُقال أن الجبار: هو الذي على فوق الخلق كلهم أجمعين، فهو العالي.
- قال الشوكاني: الجبار تعني عظَمَةُ الله وجبروته، وكانت العرب تنادي ملوكها (بالجبار).
- قال السعدي: الجبار هو بمعنى القهار، والعلي الأعلى، وهو أيضاً بمعنى الجابر لمن انكسر قلبه، وهو الجابر لمن لجأ إليه ولاذ به، وهو الجابر للعاجز الضعيف.
- قال ابن القيِّم رحمه الله في نونيته: هو من بين أبلغ ما قيل في معنى الجبار، فقال:
وكذلك الجبار من أوصافه
والجبر في أوصافه قسمان
جبر الضعيف وكل قلبٍ إذا غدا
ذا كسرةٍ فالجبر منه دان
والثاني جبر القهر بالعز الذي
لا ينبغي لسواه من إنسان
وله مُسمّى ثالثٌ وهو العلو
فليس يدنو منه من إنسان
من قولهم جبارةٌ للنَّخلة العليا
التي فاتت لكل بنان
الآثار الإيمانية المستنبطة من اسم الله الجبار
- إن الله سبحانه وتعالى هو الذي على فوق خَلقه أجمعين، علواً بذاته، وعُلوّاً بصفاته وقَدْرِه، فلا يقدر أحدٌ من خلقه الدُّنوَّ منه إلا بأمره، ولا يشفع أحدٌ لأحدٍ، أو يتكلم أحدٌ يوم القيامة إلا بعد إذنه، فهؤلاء الخلائق كلهم حتى وإن اجتمعوا أولهم وآخرهم، لن يضرُّوا الله أو ينفعوه بشيء.
- إن الله جلَّ في عُلاهُ جَبَر خَلْقه على ما أراد أن يكونوا مخلوقين عليه، فله التصرُّف الكامل بهم كيف ما شاء، ومتى شاء، فلا أحدٌ يستطيع منعه، قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
- إن الله تعالى جبر جميع خلقه على ما شاء من الأوامر التي أمرهم بها، وعلى النواهي التي نهاهم عنها، أي أنه شرع لهم هذا الدين الذي ارتضاه لهم لكي يعبدوه، ويسبحوه، ويطيعوه به، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1].
- إن الله تعالى استفرد بهذا الاسم لنفسه وحده من دون الخلائق أجمعين، حيث إنه مذمومٌ إذا أُعْطِيَ لأحد من المخلوقين، وذلك لأنَّ أمره سبحانه لا يعلو عليه أمر، وحُكمه هو الأصل، ولا ينزل عليه سبحانه حُكم أحدٍ، وهو الذي يسأل عباده وهم لا يحق لهم سؤاله، فهوالقاهرٌ وليس بمقهور، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، وقد توعد الله سبحانه وتعالى كل من تجبَّر في الأرض وتكبر في غير الحق، فقال: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود:59]، وقال أيضاً: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35]، وأما توعده للعذاب لهم فهو في قوله سبحانه: {وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15-17].
إن من عظمة الله وجبروته، أن الأرض تكون كالخبزة بيده، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر…” [البخاري:6520، مسلم:2792].