جدول المحتويات
ذِكر الموت في القرآن
ذَكَرَ الله سبحانه وتعالى الموت في كتابه الكريم في العديد من الآيات، وكان هذا الإخبار من باب التنبيه، أو التذكير للناس أن هذه الحياة لن تدوم لأحد، وأنه ليس من مخلوقٍ مخَلَّد أبد الحياة، بل إن الجميع عاجلاً أو آجلاً سيذوق هذا الموت، لأن هذه الحياة مؤقَّتة، وما هي إلا اختبارٌ، وامتحانٌ للبشر، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، فهذه الآية الكريم فيها من البشارة كما فيها من الوعيد، البشارة فيها لمن كان مطيعاً لأوامر الله أنه سيُبعد عن جهنم، وعن عذابها، فإن كان المسلم من هذا الصِّنف، فإن قلبه مطمئن، ونفسه طيبةٌ راضيةٌ بقضاء الله إن جاءه الموت، لأنه يستشعر بأن أجره عند الله، وأن الله رحيمٌ، وكريم، وغفور، أما العاصي، أو الكافر، فإنه سيكون متخبِّطاً، وقلقاً، وخائفاً خوفاً شديداً يحرمه الحياة الطبيعية، كما أنه في هذه الآية حَثٌّ للبشر بأن يزهدوا في هذه الدنيا، وأن لا يجعلوها أكبر هَمِّهم، لأنها زائلة [1] [2].
وأنزل الله غيرها من الآيات التي تُبَيِّن بأن الموت قادمٌ لا مَحاله، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 57]، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، فهذه الحياة ليست دائمةً لأحد، فلو كان أحدٌ مُخَلَّدٌ، لكانوا الأنبياء، والرُّسُل، والصالحون، لأنهم أحقُّ الخَلْق بهذا التَّخليد، إلا أن الله سبحانه وتعالى هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخِر الذي لن بقى بعده شيء، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ*وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وِالإكْرَامِ} [الرحمن: 26-27]، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34]، وقال سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزُّمَر: 30].
هل يمكن الفرار من الموت
سُنَّةُ الله في هذا الكون أن الجيمع سيموت، وأن هذا الموت سيُلاقي كل مخلوق، فلا فرار منه، لأن الموتَ حقٌ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الموت حَقٌّ ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ” [متَّفقٌ عليه]، فمهما حاول البشر من المحافظة على صِحَّتهم، والحرص على حياتهم من كل ما هو مُهلك، فإن هذا لن يساعدهم على الفرار من الموت، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]، وقال سبحانه وتعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].
تَذَكُّر الموت والخوف منه خيرٌ أم شرٌ
يتفاوت الخوف من الموت عند تذكُّره من شخصٍ لآخر، فبعض الناس يتذكر الموت ويخاف منه فيكون هذا خيراً لهم، لأنهم عند تذكُّرهم للموت يجتهدون في العبادات، ويجتنبون المعاصي والآثام، وهذا شيءٌ محمود، وقد أوصى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّته بتذكر الموت، حتى يبقوا متنبهين، ومتيقظين لأنفسهم من المهالك، التي تودي بالغافل لقعر جهنم -نعوذ بالله منها- فقال صلى الله عليه وسلم: “أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ” [رواه الترمذي: 2307، وابن ماجه: 4258، والنسائي 1824، وصححه الألباني في صحيح الترمذي]، وهاذم اللذات هو الموت [3]، وهذا نهج الصحابة الكرام، ومن تبعهم من الصالحين والعلماء، وسيُذكر بعض أقوالهم لاحقاً، وشدَّة خوفهم من الحساب الذي في القبر بعد الموت، أو في يوم القيامة بعد النشور من القبور.
النوع الثاني من الخوف عند بعض الناس هو نوعٌ مذموم، وغير شرعي، وهو الخوف الذي يؤدِّي بالمسلم إلى اليأس، والإحباط، والقيام بما لا يرضى الله، لأنه يخالف نهج النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضوان الله عليه، والصالحين من بعدهم، حيث إن البعض يؤدي به هذا الخوف إلى الجلوس، والتَّقوقع في مكانه، لا يعمل، ولا يقوم بما يجب عليه القيام به بحق نفسه، أو بحق من حوله، وهذا اليأس يكون على نوعين، يأس من رحمة الله، والظن بالله الظن السيء، ويأسٌ دنيوي يجعله مُقصِّراً في حقوقه الشخصية، أو حقوق أهله، فاليأس من رحمة الله شيء مُحرَّمٌ، حتى إنه في بعض الأحيان يؤدي بصاحبه إلى الكفر -والعياذ بالله-، قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وقال تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحِجْر: 56]، وقال تعال: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]، فإن تذَّكر المسلم الموت وخاف منه، فهذا شيءٌ طبيعي، إلا أن هذا الخوف يجب أن يجعله من العاملين لآخرته، وأن لا ييأس بأن الله رحمنٌ رحيمٌ، وقادرٌ، وغفور، لأن الله هو الذي ينزل رحماته على عباده، إن كان ذلك في حياته في الدنيا، أو في الآخرة بعد موته [4] [5].
الخوف والرجاء
إن تذكر الموت، والخوف منه من الأمور المطلوبة، لكن يجب أن يكون معه الرجاء، هذا رجاء عفو الله، ورجاء الرحمة الربانية، يقول الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، فكانوا يُكثرون لفعل الخير، ويدعون الله رغباً، أي رجاءً برحمة الله تعالى وفضله، ويدعونه رهباً، أي خوفاً من عقابه وعذابه، فهذا هو العمل الصحيح، أن يكون المسلم متوسطاً بين الخوف والرجاء.
وسواس الخوف من الموت
إن الشيطان يحاول قدر المستطاع أن يُكَدِّر حياة البشر، فيُضلُّهم، ويخوِّفهم، ويُمنِّيهم الأماني الفارغة، حتى يكفروا بالله، أو ييأسوا من رحمة الله، يقول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ} [آل عمران: 175]، ويقول تعالى: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60]، وقال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120]، إلا أن هذه الوساوس ضيعفةٌ أمام من يؤمن بالله، ويستعين به سبحانه، قال تعالى {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء: 76]، فعلى المسلم الاستعانة بالله، والإكثار من الذِّكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل أذكار الصباح ، وأذكار النوم، وفي كل الشؤون، والإكثار من الاستغفار، والتسبيح، وتحديد وردٍ من القرآن يقرأه المسلم كل يوم، والدعاء بأن يزيل الله هذه الوساوس المُحبطة، والأفضل أن يكون الدعاء في مواطن الاستجابة، في السجود، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ، فأكْثِرُوا الدُّعاءَ” [مسلم: 482]، وقال عليه الصلاة والسلام: “الدُّعاءُ لا يُردُّ بينَ الأذانِ والإقامةِ” [صححه الألباني في صحيح الترمذي: 3595] [6].
أقوال الصحابة في خوفهم من الحساب بعد الموت
كان الصحابة يخافون من الموت، لأنهم يخافون من الحساب الذي سيأتي بعده، إلا أن هذا الخوف لم يُثنهم عن العمل، فكانوا أئمةً في العبادات، والفتوحات الإسلامية، وإعطاء كل ذي حقِّ حقه، قال الضحَّاك بن مزاحمٍ رحمه الله: “مَرَّ أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه على طيرٍ قد وقع على شجرة فقال: “طُوبى لك يا طيرُ تطير فتقع على الشجر ثم تأكل من الثمر ثم تطير ليس عليك حسابٌ ولا عذاب، ياليتني كُنت مثلك، والله لوددتُ أني كنتُ شجرةً إلى جانتِ الطريق فَمَرَّ عليَّ بَعيرٌ، فأخذني فأدخلني فاه فلاكني ثم ازدردني ثم أخرجني بعراً ولم أكن بشراً”، وقيل أن عمر بن الخطاب قال: “يا ليتني كُنتُ كبشَ أهلي سمنوني ما بدا لهم حتى إذا كنت كأسمن ما يكون، زارهم بعض من يحبون فذبحوني لهم، فجعلوا بعضي شواء، وبعضه قديداً، ثم أكلوني، ولم أكن بشراً”، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: “يا ليتني كنت شجرةً تُعْضَدُ وتُؤكل ثمرتي، ولم أكن بشراً” [حلية الأولياء 1\52، شعب الإيمان 1\485، تاريخ دمشق 30\331].