جدول المحتويات
من الأدباء القلائل الذين حفظ اسمهم التاريخ العالم العربي أبو عثمان عمرو بن بَحر بن مَحْبُوبٌ بن فَزارَة اللَّيْثِيّ الْكِنَانِيّ الْبَصَرِيّ؛ المعروف بـ الجاحظ، والذي عُرف بأسلوبه اللغوي الرصين والهزلي، كما أشير إليه بالبنان في علوم وموضوعات كثيرة؛ ما يجعله موسوعة حيّة.
يتحدث المقال عن الجاحظ، ويشمل:
- التعريف بالجاحظ، ومكان نشأته، وطلبه للعلم، والمهن التي مارسها.
- أبرز مؤلفات الجاحظ التي تركت صدى إلى وقتنا الحاضر.
- منهج الجاحظ الذي جمع بين الشك والنقد، وأساتذته الذين أخذ عنهم علومه المتنوعة.
- قصة وفاة الجاحظ.
من هو الجاحظ ؟
ميلاد الجاحظ
يُعد الجاحظ من أقحاح الأدباء العرب، وأحد كبار الأئمة في العصر العباسي، وُلد الجاحظ في البصرة ونشأ فيها، وكان ذاك في عهد ثالث الخلفاء العباسيين والملقب بـ المهدي، أما عن تاريخ مولده فقد قيل أنه كان بالسنة 150 هجرية، فيما قال آخرون أنه كان في 159 هجرية وأوصله البعض إلى 163 هجرية، والقول الأول هو الأرجح (150هـ)؛ بسبب الاتفاق على أن الجاحظ عاصر في حياته 12 خليفة عبّاسي، هم: المهدي، والهادي، والرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، والمعتز، والمهتدي بالله؛ ما يدل على طول عمره.
أما عن نشأته فقد عُرف عن الجاحظ أنه كان فقيرًا دميم الخلقة، وقد عُرف بـ الجاحظ لجحوظ عينيه، وقيل أن ذلك بسبب سهره ومواظبته على القراءة وطلب العلم، كما رويّ أنه كان خفيف الروح يميل إلى الهزل والفكاهة، وقد احتوت معظم كتاباته على اختلاف مواضيعها الهزل والتهكم، وقيل كذلك أنه معتد بنفسه مغرور كثير ذكر أنسابه، ومما يروى أن الجاحظ مدح نفسه قائلًا: أنا رجل من بني كنانة، وللخلافة قرابة، ولي فيها شفعة، وهم بعد جنس وعصبة”.
لغة الجاحظ
أحبّ الجاحظ العلم منذ بدايته، حيث قرأ القرآن ومبادئ اللغة وأتقن ذلك وشهد له شيوخ قريته، واستمر بطلب العلم رغم فقره الشديد، حيث كان يذهب للعمل نهارًا، ثم يقضي وقته بين أروقة دكاكين الورّاقين ليلاً ليقرأ ما يستطيع من الكتب التي نمّت ملكة حب المعرفة والتعلم لديه، فدرس اللغة العربية وآدابها، كما اتصل بالثقافات الأخرى كالفارسية واليونانية والهندية، وذلك من خلال قراءة أعمال مترجمة أو مناقشة المترجمين أنفسهم؛ كحنين بن إسحق وسلمويه.
قال بعض المؤرخين أن الجاحظ أتقن الفارسية مستندين على أنه دوّن في كتابه المحاسن والأضداد بعض النصوص الفارسية، وقد تجدر الإشارة إلى ما أورده ياقوت الحموي عن أبي هفَّان – أحد من عاصروا الجاحظ – الذي قال: “لم أر قطُّ ولا سمعت من أحبَّ الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنَّه لم يقع بيده كتاب قَطُّ إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان ولا عَجَبَ إذ ذاك في أن يُفْرِد الصَّفحات الطِّوال مرَّات عدَّة في كتبه، للحديث عن فوائد الكتب وفضائلها ومحاسنها، والحقُّ أنَّه كان أشبه بآلة مصوِّرةٍ، فليس هناك شيءٌ يقرؤه إلا ويرتسم في ذهنه، ويظلُّ في ذاكرته آمادًا متطاولة”.
ليُضيف قائلًا: “الجاحظ لم يقصر مصادر فكره ومعارفه على الكتب، وخاصَّةً أنَّ ذلك عادةٌ مذمومةٌ فيما أخبرنا هو ذاته وأخبرنا كثيرون غيره، إذ العلم الحقُّ لا يؤخذ إلا عن معلم، فتتلمذ على أيدي الكثيرٍ من المعلمين العلماء واغتنى فكره من اتصاله بهم، وهو وإن لم يتَّفق مع بعضهم أو لم يرض عن فكرهم فإنَّهُ أقرَّ بفضل الجميع ونقل عنهم وذكرهم مرارًا بين طيات كتبه، وفي ذلك دلالة على مدى نَهَمِ الجاحظ بالكتب وحبّه للمعرفة.
الواقع أن الجاحظّ استطاع أن يلمّ بكمّ هائلٍ من المعارف عن طريق التحاقه بحلقات العلم المسجديَّة التي كانت تجتمع لمناقشة عددٍ كبيرٍ وواسعٍ من الأسئلة، وبمتابعة محاضرات أكثر الرِّجال علمًا في تلك الأيَّام، حيث برز نابغة في اللغة وفقه النَّحو والشِّعر، وسرعان ما أصبح أستاذًا يُشار إليه بالبنان في اللغة العربيَّة بوصفها ثقافةً تقليديَّة، وقد مَكنَّهُ ذكاؤُه الحادُّ من ثني ركبتيه في حلقات المعتزلة المهتمّين بعلم الكلام، ونظرًا لسعة علمه وَصَفَهُ ابن يزداد قائلًا: “هو نسيج وَحْدِهِ في جميع العلوم؛ علم الكلام، والأخبار، والعربيَّة، وتأويل القرآن، وأيَّام العرب، مع ما فيه من الفصاحة”.
المهن التي أتقنها الجاحظ
تدرج الجاحظ في حياته منذ نعومة أظافره، حيث إن فقره ويتمه أجبروه على العمل في بيع السمك، وبيع الخبز، ثم بدأ يشبّ ويجلس في حلقات العلم، فأصبح أستاذًا للغة العربية والفقه النحوي والشعري، ثم توجه إلى بغداد ليستمر بالعمل في التدريس، ثم تولّى ديوان الرسائل للخليفة المأمون، وقد عُرف باعتباره كاتبًا وشاعرًا وعالم أحياء وحيوانات ومؤرخٍ.
من مؤلفات الجاحظ
كتاب الحيوان للجاحظ
اهمية كتاب الحيوان للجاحظ
اعتبره المؤرخون أول كتاب يناقش “علم الحيوانات”، وقد جمع بين صفحاته سبعة أجزاء تتطرق إلى طبائع الحيوان وما ورد فيه من الأخبار والقصص والنوادر والخرافات والفكاهة والمجون، والذي تحدث فيه الجاحظ عن العرب، وأحوالهم، وأخبارهم، وأشعارهم، وما ميّز كتاب الجاحظ استطراد الجاحظ بالقصص والروايات والمواقف ليُمتع القارئ بالتبحر في المواضيع والتجارب المختلفة.
كما أن الكتاب ضمّ كثيرًا من العناوين والأخبار التي تُعنى بالربط بين علم الحيوان وما يقابلها من تفسير آيات القرآن الكريم والحديث الشريف، والأشعار الجاهلية والإسلامية لكبار الشعراء المخضرمين، وآراء المتكلمين ومذاهب الفرق الإسلامية، وشبه الملحدين والزنادقة -بوصفه- والرد عليهم، بالإضافة إلى معارف الهنود واليونان والفرس، مما ترجمه العرب، فأصبح كتابًا شاملًا.
البيان والتبيان
تطرق الجاحظ في كتاب البيان والتبين إلى مواضيع منوعة، فمثلًا ناقش علم الأدب ومفهوم البيان وفنّ القول، كما أضاء شمعة على أوجه البلاغة والفصاحة وآفات اللسان التي تعطّل خروج الجمل ورصّ الكلمات، إضافة إلى أنه ميّز بين عيوب الناس في النطق مثل اللثغة واللكنة والحصر والعيّ، فضلًا عن تخصيصه جزءً كبيرًا للحديث عن الخطابة وأساليبها كونها رمزًا للبلاغة والفصاحة وأحد أسباب الفخار في عصره، وإحدى طرق الجدل وعلم الكلام وفرض الحجة.
تحدث الجاحظ في هذا الباب عن أصول الخطابة وقواعدها وأبرز شيوخها ومن اشتهروا بها، كذلك فإنه وضّح عيوبها ودعا إلى تجنبها وذكر صفات الخطيب الناجح، إلى جانب تناوله العديد من نماذج الشعر والحِكم والأقوال، ومما برز في كتاب الجاحظ قدرته الفائقة على تحليل ونقد بعض المقطوعات الشعرية، وذكره بعض القضايا النقدية شائكة الحل من اللواتي كنّ موجوداتٍ على أيامه، من بينها ثنائيّة اللفظ والمعنى، والقديم والحديث والسرقات، والمذهب البديعي.
البُخلاء
يُعتبر كتاب علم وأدب وفكاهة في آن واحد، حيث وصف الجاحظ فيه الحياة الاجتماعية في أوج العصر العباسي، واشتهر بسبب أسلوب الجاحظ الذي امتاز بالبيان الواضح واللغة الرصينة، إلى جانب أنه أضاف عليه طابعه الفكاهي الذي طالما جذب القرّاء، ومن المواضيع التي تتطرق إليها الكتاب؛ أسرار البيوت وخفاياها، وأحاديث الناس في أمورهم الخاصة والعامة، وعن أهمّ صفاتهم وعاداتهم وأحوالهم في أوضح بيان، وأدق تعبير، وأبرع وصف، وقال بعض الباحثين أن الجاحظ كتب “البخلاء” في سنّ شبابه بسبب كثرة السخرية والتندر والتفكّه في عيوب الناس، ومنهم من ذهب إلى أن الجاحظ كتبه هرِم يحمل فوق كتفيه أعباء السنين وما لقيه من مصاعب خلال حياته.
المحاسن والأضداد
استطاع الجاحظ أن يجمع فضائل الأمور وعيوبها معًا، حيث ذكر العادات والتقاليد المجتمعية والصفات البشرية مثل الدهاء والحيلة والبلاغة والحماقة، إلى جانب مشاعر الحب والصداقة والتضحية وغيرَها منَ الصِّفاتِ والأفعالِ والقرائنِ التي من المُمكنِ أن تَحمِلَ الخيرَ والشرَّ في آنٍ واحد، وقد أوجد كل ذلك بأسلوب لغوي إبداعي مطعّم بالنوادر التاريخية والطرائف الميتافيزيقية، إضافة إلى المواقف الاجتماعية التي عُرِضَت بأفضَلِ ما يكون عن العصرِ الذي عاشَ فيهِ العبقرِيُّ العربِيُّ.
التّاج في أخلاق الملوك
يُعرف أيضًا باسم كتاب “أخلاق الملوك”، لأن الجاحظ جمع فيه قصصًا نادرة قيلت عن حياة ملوك وأمراء العصر العباسي وأسلوب حياتهم، حيث وصف فيه الخلفاء وكبار مسؤولي بلاط قصورهم في الحفلات الرسمية وأمام الحشود العامة، وما يتخللها من طرائف ملوكية وترتيبات سياسية اقتبس العرب بعضها من الفرس، وخاصة في عهد المأمون، وفي الكتاب يظهر التأثير الكبير للحضارة الفارسية في الحضارة الإسلاميّة على عهد العباسيين.
وضع الكتاب أثناء إقامة الجاحظ في بغداد عاصمة الخلافة العباسيّة وقبّة الإسلام، أيام كان العراق مزدهراً بالعلوم والمعارف، وهو ما أثر على دقة شرح الجاحظ في كتابه لأحوال أمراء المسلمين العباسيين في خلواتهم وأنديتهم ووصفهم في ليالي أنسهم وسهرهم، ومسارح لهوهم ومراتع طربهم، وقد دلت عبارات الكتاب على أنّ الجاحظ استخدم بعض التصانيف التي وضعها الفرس في هذا المعنى، وأورد بعض سننهم التي لم يبقى لها مجال بعد ظهور الإسلام، لذلك يُعتقد أنّ الجاحظ كان قد استعان بالكتب التي نقلها المترجمون من الفارسية إلى العربية في كثير من القصص التي أوردها كتابه.
رسائل الجاحظ
من أشهر الآثار الأدبية التي لقيت صدى واسعًا قديمًا وفي الوقت الحاضر، حيث طبعت مئات المرات ونالت اهتمام كبار علماء اللغة وخبراء علم الاجتماع، حيث تناقش الرسائل النادرة مواضيع متعددة بعمقٍ واستفاضةٍ بأسلوب ومعرفة أثارا الإعجاب والتقدير لهذا العقل العربيّ النابغ، فيعتقد القارئ أنّ هذا الكاتب متخصص بهذا الموضوع فقط، كما يأتي بالإثباتات والأدلة التي تدعم فكرته، وما يزيد أكثر من أهمية رسائل الجاحظ أنّها حفظت لنا نوادر من الشعر لا توجد في مصادر أخرى، مثل: شعرٍ لأبي دلف، ولابن أبي فنن، وسعيد بن حميد، والعكوك وغيرهم من أقحاح الشعراء وأعلامه.
البرصان والعرجان والعميان والحولان
يتحدث الجاحظ في الكتاب عن الهالة التي تحيط بذوي الإعاقة وأصحاب العاهات المرضية المزمنة، مثل: البرص، والعرج، والعمى، والحول من الأعلام والأشراف والمشاهير والشعراء في المجتمع العربي آنذاك، ويُعد كتاب “البرصان والعرجان والعميان والحولان” من نوادر الجاحظ، وقد قيل أنه كان ردًّا على كتاب الهيثم بن عدي الذي ناقش مثالب الأشراف من ذوي العاهات.
مفاخرة الجواري والغلمان
يلفت الجاحظ النظر في كتابه إلى ظاهرة الشذوذ الجنسي الذي تفشى في المجتمعات القديمة، حيث إن أشهر من مارسوا الشذوذ هم قوم النبي لوط عليه السلام، وقد أورد الجاحظ في رسالته عددًا من الأحاديث والأخبار تدل على تحريم الإسلام للشذوذ، كما لفت إلى أن المواقف الاجتماعية نحوه قد تغيرت على طول الزمان، حيث رفضت أقوام الشذوذ الجنسي ولقي الشاذون عذابًا أليمًا، في حين تقبلته مجتمعات واعتبرته أمرًا اعتياديًا، بل وحظي الشاذون برعاية الدولة.
يعتبر “مفاخرة الجواري والغلمان” من أوائل الكتب والرسائل التي تناولت موضوع الشذوذ الجنسي وإلقاء الضوء على هذه الظاهرة وتفشيها في المجتمعات بأسلوب لطيف وهزلي، حيث استعرض بطرافته وبراعته وجهة نظر كل فئة، وقد ذيّل الكتاب بتسعٍ وعشرين نادرة تتعلق بموضوع الشذوذ.
الحنين إلى الوطن
جمع الجاحظ أخبار الملوك والشعراء ممّن ذاقوا مرارة البعد عن الوطن، وعصفت بهم رياح الحنين والشوق إليه، فكان كتابه اللطيف “الحنين إلى الأوطان”، ويقول المؤرخون بأن سبب جمع أخبار العرب في حنينهم إلى أوطانهم، والتعريف بمدى قربهم إلى بلدانهم؛ يعود إلى أن ذلك كان يوقّد النار في أكباد الرعية في ذكر الديار والنزاع إلى الأوطان، ما حمل الملوك إلى ذكر أخبار اغترابهم من بلدهم إلى آخر واللعب على وتر العاطفة والحنين إلى الوطن، ما جعل عشائر العرب بسادتها وفتيانها تدين له بالولاء، فكان السلطان يقود الجيوش ويسوس الحروب، وليس بين جيوشه إلا راغب إليه، فكان إذ ذكر التربة والوطن حنّ عليه حنين الأمل إلى إعطائها.
الآمل والمأمول
يضم عديد النصائح التي وضعها الجاحظ ووجهها إلى الكتّاب والأدباء بما يجب مراعاته من قواعد وآداب عند طلب العون من الناس، إلى جانب ذكر أخلاق الآمل (أي السائل)، وكيف ينبغي أن تكون أخلاق المأمول (الذي يُسأل)، وقد جعل الجاحظ محور حديثه يدور حول مسائل الناس وما يمت إليها من نوادر الأخبار والأقوال والأشعار بما يثري الحديث ويحقق الفائدة الكبيرة.
التبصرة في التجارة
حاول الجاحظ في كتابه وصف أنواع الأحجار الكريمة والمجوهرات الثمينة، فبيّن أسماءها وكيفية التمييز بين الحقيقي والزائف منها، ثم انتقل للحديث عن الملبس والثياب؛ كما ذكر البلدان التي كان يجلب منها الأقمشة والمجوهرات، وما كانت تتميز به كل دولة في إنتاجها فتصدره وما كانت كل دولة تستورده، فشكّل مرجعًا مهمًا للتجار في عصره والقرون التي تلته.
البغال
اعتبر “البغال” مُكمّلًا لكتاب “الحيوان”، وقال الجاحظ في ذلك: “إن وجه التدبير في جملة القول في البغال أن يكون مضمومًا إلى جملة القول في الحافر كله، فيصير الجميع مصحفًا تامًا، كسائر مصاحف كتاب الحيوان”، ولكن ما طمح إليه الكاتب واجه عدة عقبات حالت دون تحقيق نيته، ومما جاء في مطلع كتاب البغال: 1. الهم الشاغل 2. المرض الذي عانى منه في شيخوخته.
من جهة أخرى، قال باحثون أن النقص الحاصل في كتاب البغال ومحاولة باءت بالفشل لاستدراك النقص فيه؛ دفع الجاحظ إلى إعطاء الحجج التعذّر بالهمّ والمرض، في صورة تنمّ عن أنا ترفض التسليم بالنقص، وإن كان الجاحظ التمس لنفسه عذرًا، فإن من الحرص على جمع العلم وإفادة القرّاء أن يقوم الناشرون بضم “البغال” إلى “الحيوان” بحيث يكمل أحدهما الآخر.
فضل السودان على البيضان
ناقش الجاحظ نظرية التفوق العرقي، تحديدًا تفوق العرق الأبيض على العرق الأسود، حيث كشف الكاتب جانبًا مدهشًا من حياة الناس ذوي البشرة السوداء الجميلة، وقد خصّ الجاحظ الحديث عن السود في الجزيرة العربية ومصر، حيث دحض الأقوال التي حاولت قولبة حياتهم باعتبارها مكرسة لخدمة البيض.
كتاب خلق القرآن
من الكتب التي لا تزال مفقودة، حيث ما وصل إلينا لا يعدو أن يكون مقدمته فقط، وقد تضمنت المقدمة تعريفًا شاملًا بكتاب “نظم القرآن”، ومما جاء في المقدمة كما ينقلها حاجي خليفة في كاتبه (كشف الظنون): “فكتبت لك كتابًا أجهدت فيه نفسي، فلما ظننتُ أني بلغتُ أقصى محبتك، أتاني كتابك تذكر أنك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن، وإنما أردت الاحتجاج لخلق القرآن، وكانت مسألتك مبهمة، ولم أك أن أُحدثَ لك فيها تأليفًا، فكتبتُ لك أشق الكتابين، وأثقلهما وأغمضهما معنىً وأطولهما”.
حول مقولة (خلق القرآن)، يقول خليفة: “فلربّ قول شريف الحسب، سليم من الأفن، قد ضيعه أهله، وهجنه المفترون عليه، فألزموه ما لا يلزمه، وأضافوا إليه ما لا يجوز عليه”، إلى أن قال: “ولا يجوز أن أذكر موافقتي لهم، ومخالفتي عليهم في صدر هذا الكتاب.. إلخ”، ثم ساق محاكمة إمام (أصحاب الحديث) زمن المعتصم، في أربع صفحات، بعدها تطرق للحديث عن الرافضة: “وهم أشقّاؤهم وأولياؤهم، لأن ما خالفوهم فيه صغير، في جنب ما وافقوهم عليه”.
يجب ملاحظة أن ما نشر تحت اسم “نظم القرآن” هي أقوال متفرقة للجاحظ عن القرآن الكريم، كانت موجودة في كتب الجاحظ الأخرى قام سعد عبد العظيم محمد بجمعها، وهي غير كتاب الجاحظ (نظم القرآن) الذي ما يزال مفقودًا، وقد نقل في كتاب (الإتقان) للسيوطي نصًا مطولًا لعله منقول من كتاب (نظم القرآن) وهو من محاسن الجاحظ، وأوله: “قال الجاحظ: بعث الله محمدًا عليه الصلاة والسلام أكثر ما كانت العرب شاعرًا وخطيبًا وأحكم ما كان لغة وأشد ما كان عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة.. الخ”.
منهج الجاحظ العلمي
الشك
للجاحظ منهج علمٍ فريد كتبه به رسائله، حيث اتصف بالدقة والضبط الرصين، حيث يبدأ بالشك ثم ينتقل إلى النقد، ويمرّ الجاحظ في كتاباته باستقراء المسألة من خلال التعميم وشمول كافة زوايا الموضوع بأسلوب واقعي وعقلاني، وقد جعله ذلك يظهر بصورة العالم العاقل الذي يروي تجربته وعيانه وسماعه ونقده وشكِّه وتعليله بغية البحث عن الحقيقة، لا الرجل الذي يحاول دحض مسألة كونها ضدّها، كما استطاع الجاحظ برهافة حسِّه أن يصبغ بحثه بصبغة من الأدب الجميل الذي يُضفي على المعارف العلميَّة الحسن والظَّرافة، ويُحبب القارئ فيها ويشدّ حتى منتقديه لمعرفة ما خطّ قلمه، لتنساب أفكاره في الأذهان وتُصبح محببة إلى القلوب، وهذه ميزة قلَّت نظيراتها في التُّراث الإنساني.
استعرض الجاحظ مكانة الشك في البحث والتأصيل من الناحية النظرية، ومن أهم ما قاله في ذلك: “واعرف مواضع الشَّك وحالاتها الموجبة لها لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة لـه، وتعلَّم الشَّك في المشكوك فيه تعلُّمًا، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرُّف التَّوقُّف ثُمَّ التَّثبُّت، لقد كان ذلك مما يُحتاج إليه. ثمَّ اعلم أنَّ الشَّكَّ في طبقاتٍ عند جميعهم، ولم يُجمعوا على أنَّ اليقين طبقات في القوَّة والضَّعف”، ذلك عكس أن الجاحظ لم يرد الشك لمحض الشك، بل إن الشك الجاحظي وافق إلى حدّ كبير الشَّك المنهجيِّ عند الإمام الغزالي والفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، فكلُّ منهم أراد الشَّكَّ طلبًا للحقيقة؛ الحقيقة الجلية الواضحة التي لا تقبل تفاوتاً في الدَّرجات.
النقد
حظيّ الجاحظ بعقلية نقدية غير مألوفة، حيث عُرف بتهكُّمه وتعليقاته السَّاخرة التي لم يسلم منها جانبٌ من جوانب المعرفة ولا مخطئٌ أمامه أو واصلٌ إليه خبره، ومن ذلك مثلاً تهكُّمه بالخليل بن أحمد الفراهيدي من خلال علم العروض الذي قال فيه: “العروض علمٌ مردود، ومذهبٌ مرفوض، وكلام مجهول، يستكدُّ العقول، بمستفعل ومفعول، من غير فائدة ولا محصول”.
أما النقد المنهجي الذي اتبعه الجاحظ، فقد تمثّل من خلال كتبه الكثيرة ورسائله التي ضمّت مختلف الموضوعات المعرفيَّة؛ العلميَّة والأدبيَّة، ومن ذلك نقده لعلماء عصره ومحدِّثيه ورواته وفقهائه والعلماء السَّابقين، ومن بينها انتقاده لبعض فقهاء الكلام الذي قال أحدهم: “لو كان بدلُ النَّظرِ فيهما النَّظرَ في التَّوحيد، وفي نفي التَّشبيه، وفي الوعد والوعيد، وفي التَّعديل والتَّجويد، وفي تصحيح الأخبار، والتَّفضيل بَيْنَ علم الطَّبائع والاختيار، لكان أصوب”.
ليردَّ عليه الجاحظ ناقدًا إياه: “العَجَبُ أنَّك عمدت إلى رجالٍ لا صناعة لهم ولا تجارة إلا الدُّعاءُ إلى ما ذكرت، والاحتجاجُ لما وصفت، وإلاَّ وضع الكتب فيه والولايةُ والعداوةُ فيه، ولا لهم لذَّة ولا همٌّ ولا مذهبٌ ولا مجازٌ إلاَّ عليه وإليه؛ فحين أرادوا أن يقسِّطوا بَيْنَ الجميع بالحِصص، ويَعْدِلوا بين الكلِّ بإعطاء كلِّ شيءٍ نصيبه، حَتَّى يقع التَّعديلُ شاملاً، والتَّقسيط جامعاً، ويظهر بذلك الخفيُّ من الحكم، والمستور من التَّدبير، اعترضتَ بالتعنُّت والتَّعجُّب، وسطَّرت الكلام، وأطلت الخطب، من غير أن يكون صوَّب رأيك أديبٌ، وشايعك حكيمٌ”.
عمومًا، فإن منهج الجاحظ غلبت عليه بعض طباعه خاصة صفة مدحه لنفسه، حيث إن نقده يصل حدّ أن يزيِّف الخرافات والتُّرَّهات في عصره وقبل عصره، ويورد انتقاداته بشكل يجعل العصور السابقة خلت من الفلاسفة الجهابذ، ويقول الجاحظ في ذلك: “ومما لا أكتبه لك من الأخبار العجيبة التي لا يجسر عليها إلا كلُّ وقاح أخبار، ولذلك ما أكثر ما كان يستفتح الأخبار المغلوطة أو الأسطورية بقوله زعم فلان، وزعموا”، ليعقبها بالقول: “بعقلٍ راجحٍ، ونظرٍ صائبٍ، وأسلوبٍ سهلٍ عَذْبٍ متنوِّعٍ دقيقٍ فكهٍ، يَتَتَبَّعُ المعنى ويقلِّبُه على وجوهه المختلفة، ولا يزال يولِّده حَتَّى لا يترك فيه قولاً لقائل”.
أساتذة الجاحظ
تتلمذ الجاحظ على أيدي كبار علماء عصره، حيث أخذ علم اللغة العربية وآدابها عن أبي عبيدة مؤلف كتاب “نقائض جرير والفرزدق”، إلى جانب الأصمعي الراوية المشهور صاحب الأصمعيات، وأيضًا أبي زيد الأنصاري، كما أنه درس النحو عن الأخفش عالم زمانه، وبرع في علم الكلام على يد إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري.
نلحظ أن علماء الجاحظ في غالبيتهم من علماء البصرة، مركز العلوم والمعارف وموطن العلماء في عصر خلى، ورغم كثرة حلقات العلم التي جلس فيها الجاحظ، فإن المؤرخين اكتفوا بقائمةٍ صغيرةٍ منهم غالبًا ما تقتصر على العلماء المشهورين، وبناءً على بعض المصادر، يُمكن الإشارة إلى هؤلاء كما يلي:
في ميدان علوم اللغة والأدب والشِعر والرِواية
- أبو عبيدة معمر بن المثنَّى، الأصمعي.
- أبو زيد بن أوس الأنصاري.
- محمد بن زياد بن الأعرابي.
- خلف الأحمر.
- أبو عمرو الشَّيباني.
- أبو الحسن الأخفش.
- علي بن محمد المدائني.
- زيد بن كثوة التميمي.
في علوم الفقه والحديث
- أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي.
- يزيد بن هارون.
- السري بن عبدويه.
- الحجَّاج بن محمد بن حماد بن سلمة.
- ثمامة بن الأشرس (الذي لازمه الجاحظ في بغداد).
في الاعتزال وعلم الكلام
- أبو الهذيل العلاف.
- النظام ومويس بن عمران.
- ضرار بن عمرو.
- الكندي.
- بشر بن المعتمر الهلالي.
- ثمامة بن أشرس النُّميري.
وفاة الجاحظ
بحسب ما ورد في كتاب السير، فإن وفاة الجاحظ حصلت عام 868 ميلادية والتي توافق 255 للهجرة، وبحسب ما أورده الكتاب فإن الجاحظ رحل عن عمر يناهز التسعين عامًا، وقد تناقلت الأخبار أنه أصيب بشلل أقعده وشيخوخة صالحة، عندما كان جالسًا في مكتبته يطالع بعض الكتب المحببة إليه، فوقع عليه صف من الكتب أردته ميتًا، لعلّ ذلك أصدق ما نقل إلينا لغة ومضمونًا، فمن أحب شيء استدركه الموت به، وقد رحل الجاحظ بين كتبه ومخلفًا لنا إرثًا خالدًا سيبقى طويلًا.