سيرة الإمام مالك بن أنس الكاملة

سيرة الإمام مالك بن أنس الكاملة

إن دراسة سيرة الإمام مالك كفيلة بأن يعلم الشخص أنه أمام شخصية عظيمة، وواحد من أكثر الفقهاء في التاريخ الإسلامي تأثيرًا؛ بسبب ما تركه من مؤلفات وأثر باقٍ إلى يومنا هذا، ورغم شهرته التي طافت الدنيا؛ يبقى كثيرون يجهلون من هو الإمام مالك، ولا يعلمون الكثير عن سيرته، خاصةً ما يتعلق برحلته في طلب العلم وأشهر طلابه، ولا يكتمل الحديث دون التطرق إلى أشهر مؤلفاته “الموطأ”، وهل صحيح دخل عليه التحريف؟ ‘إلى جانب الحكاية الكاملة لـ فتنة الإمام مالك.

يتحدث هذا المقال عن الإمام مالك بن أنس، ويشمل: 

  • التعريف بالإمام مالك ورحلته في طلب العلم.
  • مذهبه ومؤلفاته وأهمها على الإطلاق “الموطأ”.
  • شيوخه وتلاميذه ومواقف حياته ووفاته.

من هو الامام مالك ؟

نسب الإمام مالك ومولده

مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر أنس بن الحارث بن غيمان الأصبحي المدني، كنيته أبو عبدالله، يصل نسبه يعرب بن يشجب بن قحطان، وينحدر من نسل مالك بن أنس (جده)؛ أحد كبار التابعين الذين حملوا الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى قبره في جنح الليل، يُعتبر الإمام مالك ثاني أئمة مسلمي الطائفة السنية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، “اتفقت المذاهب على جميع الأصول الفقهية، في حين كان الاختلاف في المسائل الفرعية التي كوّنت نشأة المذاهب”.

أما مولده، فقد اختلف الرواة في نقل ذلك العام، حيث قيل أنه وُلد سنة 90هـ، وقال آخرون 93هـ، وقيل كذلك عام 98هـ، ولكن التاريخ الذي اتفق على أنه وُلد فيه هو 93هـ في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، وقد رُويّ عن الإمام مالك قوله: “وُلدت سنة ثلاث وتسعين”، أما المكان، فقد ثبت أنه وُلد في المدينة المنورة، بينما ظهر رأي يقول بإنه وُلد بمنطقة تُدعى ذي المروة، وهي قرية تقع بوادي القرى بين تيماء وخيبر.

إعلان السوق المفتوح

نشأة الإمام مالك

البيت الذي نشأ فيه الإمام مالك بيت علم، في زواياه أثر من آثار العلماء والتابعين، إضافةً إلى النهل من علوم الحديث واستطلاع الآثار وأخبار الصحابة وفتاويهم، ومن آل بيته جده مالك بن أبي عامر الذي كان من كبار التابعين وعلمائهم، حيث روى عن مجموعة من الصحابة، أما باقي أهله فلم يُعرف منهم العالم، ولكن عُرفوا بصلاحهم.

 طلب الإمام مالك للعلم

بدأت مسيرة الإمام مالك في طلب العلم مذ كان صغيرًا، حيث حفظ القرآن في سنٍّ مبكرة، ثم توجه لحفظ الحديث الشريف ودراسة السنة النبوية العطرة، ثم بدأت مسيرته العلمية تتضح عندما لازم مجالس العلم، حيث حضر كطالبٍ ومُعلمٍ.

صفات الإمام مالك

ذكر المؤلفون صفات للإمام مالك عكست سبب نبوغه وتميّزه عن أقرانه، أبرزها:

قوة الحفظ

 قيل أن الإمام كان إذا استمع إلى شيء وعاه بشكل كلي وحفظه، ومما قيل في ذلك أن “مالكًا كان يسمع نيّفًا وأربعين حديثًا من رجل يُدعى ابن شهاب الزهري، فيجيء في اليوم التالي ويُلقي على من استمعها منه الأربعين حديثًا”، في دلالة على قوة حفظه ووعيه، ومما قاله الزهري في ذلك: أنت (أي الإمام مالك) من أوعية العلم، وإنك لنعم المستودَع للعلم”، ومما يرويه الإمام مالك عن نفسه: “ساء حفظ الناس، لقد كنت آتي سعيد بن المسيب وعروة والقاسم وأبا سلمة وحميدًا وسالمًا -وعدَّد آخرين- فأدور عليهم، أسمع من كل واحد من الخمسين حديثًا إلى المائة، ثم انصرف وقد حفظته كله من غير أن أخلط حديث هذا في ذاك.

الصبر

عُرف الإمام مالك بصبره ومثابرته وتحمله للصعاب، وقد ذكر أنه عانى من الفقر الشديد حتى أنه باع خشب سقيفة بيته، وذلك دون أن يشتكي أو يسخط على حال الدنيا، كما كان يذهب في أوقات الهجيرة (الحر الشديد) إلى بيوت العلماء، ينتظر خروجهم، ويتبعهم حتى المسجد، كما كان يُرى جالسًا على باب دار شيخه في شدة البرد، ويتقي برد المجلس بوسادة يجلس عليها، سمع يُردد: “لا يبلغ أحد ما يريد من هذا العلم حتى يضر به الفقر، ويؤثره على كل حال”، ومما عُرف عنه حثّه الشديد على تلاميذه على احتمال المشاق في طلب العلم بالقول والعمل، وكان يحثهم ناصحًا: “لا يكون العالم عالماً حتى يعمل في نفسه بما لا يفتي به الناس، يحتاط لنفسه ما لو تركه لم يكن عليه فيه إثمٍ”.

اقرأ أيضاً:  دليلك الشامل عن أنواع التوحيد وتعريفه

الذكاء والفراسة

 كان الإمام مالك ذكيًّا وذو فراسة قلّ نظيرها، حتى قال فيه الإمام الشافعي: “لما سِرتُ إلى المدينة ولقيت مالكًا وسمع كلامي، نظر إلي ساعةً، وكانت له فراسة، ثم قال لي: ما اسمك؟، قلت: محمدًا، قال: يا محمد، اتق الله، واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك الشأن من الشأن.”، وقال عنه أحد تلامذته: “كان في مالك فراسةٌ لا تخطئ”.

الهيبة والوقار

عُرف عن الإمام مالك هيبته التي جعلت طلبته يهابونه حتى إذا أراد أحدهم أن يدخل عليه فيُلقي السلام عليهم فلا يرُدُّ عليه أحد إلا همهمة وإشارة، ويشيرون إليه ألا يتكلم مهابةً وإجلالاً، وقد وصلت مهابته إلى حدّ أن هابه حكام عصره، وقد رُوي أنه كان في مجلسه مع أبي جعفر المنصور، وإذا صبي يخرج ثم يرجع، فقال أبو جعفر: أتدري من هذا؟، قال الإمام: لا، قال المنصور: هذا ابني، وإنما يفزع من شيبتك، ومما رُوي أيضًا أن الخليفة المهدي دعاه، وقد ازدحم الناس بمجلسه، حتى إذا حضر مالك تنحى الناس له إلى أن وصل إلى الخليفة، فتنحى له عن بعض مجلسه، فرفع إحدى رِجليه ليفسح لمالك المجلس، بل أن رجل ابن الماجشون جعل مهابة مالكًا أشد من مهابة الخلفاء، فقصّ قائلًا: “دخلت على أمير المؤمنين المهدي، فما كان بيني وبينه إلا خادمه، فما هبته هيبتي مالكًا”.

الصفات الشكلية

رويّ في الأثر أن الإمام مالك كان طويلًا، جسيمًا، ذو لون أبيض أقرب إلى الشقرة، أصلع، أعين، أشم، أزرق العينين، كما كان ربعةً من الرجال، وكان يأخذ أطراف شاربه لا يحلقه ولا يحفيه، ويترك له سبلتين طويلتين، ولم يكن يخضب شعره، أما لباسه فقد كان الإمام يعنيه كامل اهتمامه ويَرى بذلك إعظامَ العلم ورفعةَ العالم، ويقول إن مروءة العالم أن يختار الثوبَ الحسنَ يرتديه ويظهر به، وأنه ينبغي ألا تراه العيون إلا بكامل اللباس حتى العمامة الجيدة، ومن الأقوال عن هيئته ما رواه عيسى بن عمر المدني حيث قال: “ما رأيت بياضًا قط أحسن من وجه مالك، وكان عظيم اللحية عريضها”.

مذهب الامام مالك بن انس

اصول مذهب الامام مالك

أسس الإمام مالك مذهبه على قواعد وأصول لم يدونها، ولكن الرواة نقلوا ما يُمكن استنباطه من أن منهجه قائم على اجتهاداته واستنباطاته الفقهية، وما نهل منه من ينابيع عذبة هي: السنة، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين، والرأي، والاجتهاد، وأخيرًا عمل أهل المدينة.

رغم أن مالكًا كان موسوعة ومدرسة في الحديث لا يجاريه أحد في الرأي، إلا أنه كان مستمعًا جيدًا للآخرين ويأخذ بآرائهم، تمامًا كما كان الإمام أبو حنيفة، فهو يأخذ بما جاء في الكتاب، فإن لم يجد بحث في السيرة النبوية الشريفة، فإن لم يجد أخذ بفتوى الصحابة لأنهم عايشوا النبي عليه الصلاة والسلام، فإن لم يجد نظر إلى إجماع علماء الأمة في المسألة، وصولًا إلى الأخذ بالقياس والاستحسان والعرف وسد الذرائع والمصالح المرسلة ضمن شروط، وللتفصيل أكثر، يُمكن القول أن مذهب الإمام مالك بن أنس قام على أصول هي:

  • الأصول النقلية: 
    • القرآن الكريم.
    • السنة النبوية.
    • الإجماع؛ أي ما كان فيه الأمر المجتمع عليه، فهو ما اجتمع عليه أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه.
  • الأصول العقلية: 
    • القياس: أي القياس على الأحكام الواردة في الكتاب والسنة النبوية، بناءً على ما قاس عليه العلماء من قبله.
    • الاستحسان: الأخذ بأرقّ الأمور وأيسرها على الناس، لدفع الحرج عنهم وعدم تكليفهم ما لا يطيقون.
    • المصالح المرسلة: شريطة ألا تعارض نصًا شرعيًا، لذا فإن المصالح المرسلة التي لا تشهد لها أصول عامة وقواعد كلية منثورة ضمن الشريعة، بحيث تمثل هذه المصلحة الخاصة واحدة من جزئيات هذه الأصول وقواعدها العامة.
    • سد الذرائع: قصد منع الذرائع في المسائل التي ظاهرها مباح، ولكنها طريق إلى فعل ممنوع، أي الذهاب إلى مفسدة من خلال التذرع بأن الفعل يؤدي إلى مصلحة.
    • العرف والعادة: بُنيّ على هذا الأصل أحكام كثيرة، حيث كان العرف ركنًا أصيلًا للإمام مالك في الاستنباط.
    • الاستصحاب: أي بقاء الحال على ما كان حتى يقوم دليل يغيره.

يجد غير هذه الأصول، حيث يعتبر المذهب المالكي أكثر المذاهب تبنيًا للأصول وأوفرها فيما يتعلق بالأدلة، سواء كانت أدلة نقلية أو اجتهادية أقلية، فقد تمسك أتباع المذهب المالكي (يدعون بـ المالكية) بأصول لم يقل بها غيرهم، وقرروا أصولاً نفاها آخرون تأصيلاً وتفصيلاً، وبعضهم عمل بأحد فروعها.

موطأ الإمام مالك

يُعتبر المؤلف الأشهر للإمام مالك بن أنس، حيث إنه من أوائل كتب الحديث، وأكثرها شهرة في الترتيب وبنيته التركيبية، إلى جانب أنه أغنى الكتب في الاجتهاد واعتماد الرأي والنقل وأحكامه الفقهية، ويعده مؤرخون أعظم المراجع في عصره وأقدمَها، من الأقوال التي احتفت به مقولة تنسب إلى القاضي عياض جاء فيها: “لم يُعتنَ بكتاب من كتب الفقه والحديث اعتناءَ الناس بالموطأ، فإن الموافق والمخالف أجمع على تقديمه وتفضيله وروايته وتقديم حديثه وتصحيحه، وقد اعتنى بالكلام على رجاله وحديثه والتصنيف في ذلك عددٌ كثيرٌ من المالكيين وغيرهم من أصحاب الحديث والعربية”.

اقرأ أيضاً:  سورة الدخان وسبب نزولها وفضلها مع التفسير

أما الإمام الشافعي، فقد أثنى على الموطأ قائلًا: “ما في الأرض كتاب بعد كتاب الله عز وجل أنفع من موطأ مالك، وإذا جاء الأثر من كتاب مالك فهو الثُّريَّا”، وقال أيضًا: “ما بعد كتاب الله تعالى كتابٌ أكثرُ صوابًا من موطأ مالك”، أما ابن مهدي فقد أبدى رأيه بالموطأ شارحًا: “لا أعلم من علم الإسلام بعد القرآن أصح من موطأ مالك”، وقال ابن وهب كذلك: “من كتب موطأ مالك فلا عليه أن يكتب من الحلال والحرام شيئً”، أما الإمام أحمد بن حنبل، فقد أجاب عند سؤاله عن كتاب الإمام مالك بن أنس فقال: “ما أحسنه لمن تَديَّن به”.

هل تم تحريف الموطأ؟

نُشر كتاب الموطأ بروايات مختلفة، وبدأت صورة مالك تتعاظم في الكتابات التاريخية اللاحقة، إلى أن بعض الرواة تصدوا للقول بأنه تم تحريفه وإضافة وإزالة بعض ما جاء في الكتاب بما يوافق مصالحهم، وفي ذلك يقول أحمد صبحي منصور إنه “حصلت إضافات على الكتاب، وكانت أكاذيب من بنات أفكار المؤرخين الذين جاءوا فيما بعد في عصر المذاهب الفقهية والتعصب المذهبي”.

محنة الإمام مالك

رغم أن الإمام مالك بن أنس كرّس وقته للعلم والعمل في سبيل تحصيل المعرفة، وبعده التام عن كل ما يتصل بالثورات والتحريض عليها، وعن الفتن والخوض فيها، إلا أن محنة نزلت فيه أصبحت تروى في كتب التاريخ لشدة وقعها، حيث وقعت في العصر العباسي، في عهد أبي جعفر المنصور، وقد تعرض الإمام مالك للمحنة بسبب حسد ووشاية من والي المدينة المنورة؛ جعفر بن سليمان، وظلّ ابن سليمان يحرض على مالكًا حتى ضُرب بالسياط، ومن المشاهد في تلك المحنة ما قاله إبراهيم بن حماد، إنه “كان ينظر إلى مالك إذا أقيم من مجلسه حمل يده بالأخرى من شدة ما تعرض له”.

يقول الواقدي: “لما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا بمالك إليه وكثروا عليه عنده، وقالوا لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز عنده، قال فغضب جعفر فدعا بمالك فاحتج عليه بما رفع إليه عنه؛ فأمر بتجريده وضربه بالسياط، وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه وارتكب منه أمر عظيم فوالله ما زال مالك بعد في رفعة وعلو”، وقد اشتد سخط أهل المدينة على الوالي لشدة ما أصاب الإمام مالك، حتى وصل بهم الأمر إلى أن يتطاولوا عليه، بل وعلى الخليفة نفسه، ما جعل أبو جعفر المنصور يشعر بمرارة وندم ما فعل، فأرسل إلى الإمام مالك يعتذر إليه، ويتنصل مما فعله واليه.

مدرسة الامام مالك

تلاميذ الامام مالك

تتلمذ على يدي الإمام مالك عمالقة الحديث والعلم من أشهرهم: الشافعي، والسفيانان، وشعبة، وابن مهدي، وابن جريج، والليث، وابن المبارك، والزهري شيخه، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن يحيى الأندلسي، ويحيى بن يحيى النيسابوري.

اشهر كتب الامام مالك

رغم أم المؤلف الأكثر شهرة للإمام مالك يبقى الموطأ، إلى أن مالكًا ألّف العديد من الكتب، وقد ذكر منها ابن فرحون في كتابه “الديباج المذهب” ما يلي:

  • رسالة في القدر.
  • الرد على القدرية.
  • في النجوم.
  • حساب مدار الزمان ومنازل القمر.
  • رسالة في الأقضية.
  • رسالة في الفتوى.
  • في تفسير غريب القرآن.

شيوخ الامام مالك

تلقى الإمام مالك العلم على أيدي عدد من العلماء الذي ذاع صيتهم في العصر الذي شهدوه، ومن أهمهم: إبراهيم بن أبي عبلة، وإبراهيم بن عقبة، وأبو بكر بن نافع، وأبو عبيد الله مولى ابن أزهر، وأبو عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وأبو بكر بن عمر العمري، وإسماعيل بن أبي حكيم، وإسماعيل بن محمد بن ثابت، وإسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، وربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي، وزياد بن أبي زياد، وزياد بن سعد ، وزيد بن أبي أنيسة، وزيد بن أسلم، وأبو ليلى الأنصاري، وزيد بن رباح، والسائب بن يزيد.

اقرأ أيضاً:  سورة القيامة وسبب نزولها وفضلها مع التفسير

مواقف في حياة الإمام مالك

للإمام مالك بن أنس- رحمه الله – مواقف حكيمة مشرفة، منها على سبيل المثال ما يلي:

من أعظم مواقف الحكمة التي وقفها: موقفه مع من سأله عن الاستواء. فقد جاء إليه رجل، وقال: يا أبا عبد اللَّه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض، وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء، ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال: “الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة وأمر به فأُخرج”.

هذا موقف حكيم مُسدّد؛ لأنه أجاب بالإجابة الصحيحة بعد التأمل والتفكر، فكانت هذه الإجابة قاعدة ثابتة لأهل السنة والجماعة، تُجرى عليها صفات اللَّه- تعالى- كلها، فالكيف للصفة مجهول لنا لا نعرف كيفيتها؛ لأن اللَّه لم يخبرنا بالكيفية، والصفة معلومة بدليلها من الكتاب والسنة الصحيحة أو بأحدهما، والإيمان بالصفة -التي تثبت بالدليل- واجب، والسؤال عن كيفية الصفة بدعة، وليس المراد بنفي الكيفية تفويض المعنى المراد من الصفات، بل كل صفة من صفات اللَّه – تعالى – تدل على معنى حقيقي نؤمن به ونثبته للَّه كما يليق بجلاله.

من مواقفه الحكيمة ما رد به على بعض العبَّاد حينما كتب إليه يعظه ويحضه على الانفراد والعزلة عن الناس، ويحضه على العمل، فكتب إليه مالك: “إن اللَّه قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فُتحَ له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتحَ لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر”.

الإمام مالك كان يصدع بالحق ولا تأخذه في اللَّه لومة لائم، ومن ذلك قول الإمام الشافعي: “كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء، قال: أما إني على بينة من ربي وديني، وأما أنت فشاك، اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه”.

شعر الامام مالك بن انس

كان الإمام مالك ذو مشاعر مرهفة، ليس كما يتصوره الكثير بأنه آلة علم تخرج الكتب وتحكم المنطق ولا ترى مكانًا للعاطفة والشعور في حياتها، وما يعكس هذه الحقيقة أن مالكًا كان شاعرًا خلد الكتاب بعض أشعاره، ناهيك عن المصنفات الفقهية الراقية في لغتها والمطعمة ببعض جمال أقوال الإمام مالك، ولقد أورد لنا الرصيد التراثي جملة من أشعار مالكٍ التي أصبحت مادة خصبة للدراسة، وبابًا واسعًا من عذب الكلمات ونسق صفّها، فهو يشتمل على شعر وجداني من الطبقة الرفيعة يعبر عن أعمق المشاعر الإنسانية وأرقّ العواطف القلبية، ومنه شعر فلسفي يتناول مطالب النفس العليا، ويتحدث عن الروح وعالمها الفسيح، ومشكلة الوجود والحقيقة الأزلية، وما دونها من المواضيع.

من الأبيات التي نظمها الإمام مالك ما يلي:

هي القناعة لا أرضى بها بدلاً * * * فيها النعيم وفيها راحة البدن

وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها * * * هل فاز منها بغير اللحد والكفن؟

كما روى السفطي المالكي في حاشيته عن مالك بن أنس قوله:

إذا رفع الزمان مكان شخص * * * وكنتَ أحقَّ منه ولو تصاعَد

أنله حق رتبته تجده * * * ينيلك إن دنوتَ وإن تباعد

ولا تقل الذي تدريه فيه * * * تكن رجلاً عن الحسنى تقاعد

فكم في العرس أبهى من عروس * * * ولكن للعروس الدهر ساعد

وفاة الإمام مالك

مثل يوم مولده؛ فإن تاريخ وفاة الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- اختلف فيه، ولكن يبقى أدقّها أنه توفي عام 179 للهجرة، وقد وافته المنية في المدينة المنورة، ودفن في البقيع.

رثاه جموع العلماء والشعراء، ومن أشهرهم أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج الذي قال في مالكٍ:

سقى الله جدثاً بالبقيع لمالك         من المُزْن مرعادَ السحائب مبراقُ

إمامٌ موطاه الذي طبَّقت به         أقاليمُ في الدنيا فساحٌ وآفاقُ

أقام به شرعَ النبي محمدٍ               له حذرٌ من أن يُضام وإشفاقُ

له سندٌ عالٍ صحيحٌ وهيبةٌ         فللكل منه حين يرويه إطراقُ

وأصحابه بالصدق تعلم كلَّهم       وإنهم إن أنت ساءلت حُذَّاقُ

ولو لم يكن إلا ابنُ إدريس وحده            كفاه على أن السعادة أرزاق

فيديو سيرة الإمام مالك بن أنس الكاملة

مقالات مشابهة

وداع رمضان 2022

وداع رمضان 2022

سورة الفاتحة وفضلها مع التفسير

سورة الفاتحة وفضلها مع التفسير

نية الصيام

نية الصيام

واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا التفسير الشامل

واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا التفسير الشامل

معايدة رمضان

معايدة رمضان

فضل دعاء يوم الجمعة

فضل دعاء يوم الجمعة

ما فوائد صلاة الليل والوتر

ما فوائد صلاة الليل والوتر